منذ قرون طويلة وعصور موغلة في أعماق التاريخ كان الصراع قائماً بين الشرق والغرب، ولقد ظلت لهذا الصراع دوراته وموجاته ومعاركه رغم تعدد النظم والحضارات التي شهدتها مواطن الغزاة الذين ظلت أعينهم جميعاً على الشرق طامعين في ثرواته وكنوزه وموقعه الاستراتيجي الذي يحكم مركز هذا الكوكب الذي نعيش فيه.
ولقد كان صراع الغرب ممثلاً في الدولة البيزنطية ضد الشرق ممثلاً في الدولة الفارسية القديمة، فصلاً من فصول هذا الصراع، امتد على طول قرون عديدة سبقت ميلاد المسيح.. ولقد استطاع الغرب بقيادة الاسكندري الأكبر المقدوني أن يحرز في القرن الثاني قبل الميلاد انتصارً باهراً للغرب ضد الشرق عندما كون إمبراطوريته الشرقية الواسعة الأرجاء.. وهي الإمبراطورية التي جعلت سيادة الغرب تدوم أكثر من ثمانية قرون..
وعندنا ظهر الإسلام تسلح العرب بأسلحته المادية والمعنوية وأخذوا على عاتقهم مهمة تحرير الشرق من الحكم البيزنطي، ففتح المسيحيون المصريون أذرعهم لجيش عمرو بن العاص، ونصروه ضد البيزنطيين، وحارب عرب سوريا الغساسنة -وهم نصارى- في صفوف الجيش العربي المسلم ضد نصارى الروم، وفي مدة وجيزة استطاع العرب أن ينفضوا عن كاهل الشرق رداء الغزو الاستعماري الغربي الذي ألقاه على كاهله الاسكندر الأكبر في القرن الثاني قبل الميلاد.
وفي العصور الوسطى، وعلى امتداد قرنين من الزمان (1096-1292م) تجدد الصراع من جديد، وجاء الغرب الاستعماري هذه المرة متخفياً تحت صلبان المسيح، محاولاً ستر أطماعه الاستعمارية الاستيطانية بالدين، ومتسلحاً في هذه الموجة الجديدة بفروسية الإقطاع وفرسانه في العصور الوسطى، وبعد أن أحرز الانتصارات، واستولى على مساحات من الأرض أقام عليها الإمارات الصليبية اللاتينية التي فصل بها المشرق العربي عن مصر والمغرب.
وفي صراع الغرب الاستعماري هذا ضد العرب والعروبة، استعان بالأقليات والقبائل والفئات العنصرية التي لا يكن لها أي ود، ولا تربطه بها أية روابط فكرية، كما حدث عندما تحالف مع “التتار” الوثنيين ضد العرب الذين يدينون بدين سماوي؟!.. كل ذلك في سبيل الغزو والاستعمار والاستيطان..
وفي بدايات العصر الحديث تعرض الشرق العربي لموجة جديدة من الغزو الغربي، ورفع أصحابها هذه المرة رايات التجارة والتجار. فكان ذلك الصراع القائم والمستمر منذ حملة بونابرت على مصر ثم الشام.. وفي هذه الموجة والمرحلة من هذا الصراع استعان الغرب، ولا يزال، بالأقلية العنصرية المتمثلة في اليهود الصهيونيين، رغم تاريخ هذا الغرب في اضطهاد اليهود، وحصرهم في بلاده ومدنه بالجيتو كالمنبوذين، وصفحات تاريخه المليئة بالعداء للسامية.. كل ذلك، أيضاً في سبيل الغزو والاستعمار والاستيطان..
وطوال جميع مراحل هذا الصراع كانت عين الغزاة على مصر تحاول عزلها عن المشرق العربي، حتى لا تتم للعرب قوتهم بوحدتهم فكانت الكيانات الصليبية قديماً تمتد من البحر المتوسط حتى ميناء “أيلة” على خليج العقبة، وحديثاً تقوم في هذا الموقع الدولة الصهيونية لتحقق نفس الأهداف، وهي تطمح في التمكين لهذا العزل بإعطاء “الجدار العازل” المزيد من العرض والطول؟!
وطوال المعارك التي شهدها هذا الصراع كانت وحدة الجبهة القومية العربية، وبالذات وحدة المشرق مع مصر، وتساند الجبهة الشرقية مع الجبهة الغربية هي المقدمة الضرورية لإحراز النصر على هذا الغزو الاستعماري وذلك الجسم الغريب المزروع قسراً في قلب الوطن العربي الكبير.
وإن ما تحاول استنهاضه صفحات هذا الكتاب هو عرض صفحات المعارك الكبرى التي دارت في صراع العرب ضد الغزاة، من “حطين إلى رشيد” مستندة في ذلك إلى أقدم وأوثق المصادر التي شاهد أصحابها وعاصروا هذه المعارك، وشاركوا عملياً أو فكرياً في هذه الصراعات، ثم ترك الأمر بعد ذلك للقارئ يستلخص من هذه المعارك القوانين التي حكمت الصراع بين أطرافها، وأيضاً تقدير الصالح والجوهري في هذه القوانين كي يستعين بها ويعي على ضوئها الصراع العربي الغربي الراهن فيوجه أحداثه تجاه النصر الذي يأمله، كما صنع أسلافه ضد موجات الغزو التي اجتاحت الوطن العربي في زمنهم فانتصروا عليها في المعارك الكبرى التي يتحدث عنها هذا الكتاب.(less)